لا يُعدّ مبدأ التفاوض مع العدو الإسرائيلي مرفوضاً بالمطلق حتى لدى القوى التي تتبنى خطاب المقاومة. فالتجارب السابقة أظهرت أنّ التفاوض يمكن أن يكون أداةً من أدوات الصراع، وليس بديلاً منه.
غير أنّ المشكلة لا تكمن في قبول التفاوض أو رفضه، بل في الشروط التي تُدار ضمنها العملية التفاوضية، وفي الهدف السياسي الذي تنشده السلطة الرسمية، وفي طبيعة الاستراتيجية التي تحكم السلوك اللبناني في لحظة إعادة تشكيل البيئة الإقليمية.
فالسؤال المركزي ليس: هل نتفاوض أم لا؟ بل: هل التفاوض وسيلة لتحقيق الأهداف الوطنية، أم مسار للتنازل عنها؟ وهل هو استخدام السياسة لتجنيب لبنان أثمان الحرب مع الحفاظ على عناصر قوته، أم استخدام معادلة الحرب لدفع لبنان نحو استسلام سياسي مُقنَّع؟
هنا يصبح النقاش سياسياً واستراتيجياً، لا مبدئياً. وبناءً عليه، يصبح السؤال التالي ضرورياً: ما هي البيئة التي تدفع باتجاه هذا المسار التفاوضي؟
وما هي القوى التي تتحكم في إيقاعه؟ هل نشهد تحوّلاً استراتيجياً في موازين القوة لصالح لبنان يسمح له بفرض شروطه، أم أنّ التفاوض أتى استجابة لضغوط ومطالب ملحة من قبل واشنطن وتل أبيب؟
الجواب يكمن في الميدان، حيث يستمر العدو في مراكمة ضغوطه وعدوانه، بدعم أميركي مباشر، مُتَّخِذاً من المواجهة المفتوحة وسيلة لتعديل البيئة السياسية اللبنانية.
وهو ما ظهرت نتيجته في محطات متعددة، في تحرك الدولة اللبنانية ضمن منطق الاستجابة للمطالب الخارجية، بدءاً من المصادقة على الورقة الأميركية من دون مقابل، وصولاً إلى قرارات الخامس والسابع من آب بشأن نزع سلاح المقاومة. هذه الخطوات عكست عدم وجود إرادة وطنية لمواجهة الضغوط الإسرائيلية، على الأقل حتى بمنطق توظيف المقاومة كورقة تُنتزع مقابلها أثمانٌ من العدو... بل كانت الدولة اللبنانية أكثر كرماً عبر تقديم تنازلات مجانية تحت عنوان الواقعية السياسية.
من هنا، يبدو أنّ التفاوض جرى تحت سقف إسرائيلي – أميركي، لا ضمن رؤية وطنية لبنانية. فالولايات المتحدة لم تُخفِ يوماً أنّ الهدف من أي عملية سياسية في لبنان هو إعادة هندسة الدور الوظيفي للدولة اللبنانية، لتصبح ضابطة لمعادلة تحمي الأمن الإسرائيلي وتحقيق مصالحه.
خطاب أم استراتيجية؟
في المقابل، يُفترض أن يكون الهدف اللبناني – كما يُعبَّر عنه علناً – هو: إخراج العدو من الأراضي اللبنانية، تحرير الأسرى ووقف الاعتداءات. لكن رفع الشعارات ليس استراتيجية. إذ لا يزال السؤال الأكثر أهمية: ما هي الاستراتيجية اللبنانية لتحقيق هذه الأهداف؟ هل تعتمد على إرادة وطنية حقيقية في مواجهة المخاطر المحدقة بمستقبل لبنان؟ أم تراهن على علاقات خارجية يُنتظر منها الضغط على إسرائيل؟
وإن كان الأمر كذلك، فهل هذه سياسة وطنية أم سياسة مُلحَقة بواشنطن راعية العدو الإسرائيلي؟ الدولة اللبنانية مطالبة بتوضيح ذلك لشعبها، لا الاكتفاء بالشعارات أو المناورات الخطابية. إنّ غياب رؤية لبنانية واضحة لا يؤدي إلى فراغ سياسي فحسب، بل يتيح للقوى الضاغطة – إسرائيل والولايات المتحدة تحديداً – تحويل التفاوض إلى أداة لإعادة تشكيل البيئة الداخلية بما يخدم مصالحهما، لا مصالح لبنان.
ولذا، فإن الخطورة ليست في التفاوض ذاته، بل في أن يكون ترجمة لمخطط يهدف إلى تفكيك تدريجي للقوة الوطنية، عبر مسار من «التنازلات المتدرجة»، كما يتم على أرض الواقع، بحيث لا يشعر الشارع أن الهزيمة حصلت إلّا بعد فترة زمنية قد تكون طويلة أو قصيرة. بالطبع هذا هو المخطط، أما ما الذي سيتحقق، فهو أمر تُحدده المتغيرات ومعادلات إدارة الصراع.
ينطلق هذا التقدير من حقيقة أن التفاوض بالنسبة إلى إسرائيل ليس بديلاً من الحرب، بل هو امتداد لها: الحرب تُنتج الضغط، والتفاوض يُنتج الاستثمار السياسي للضغط. وبدعم أميركي غير محدود، تصبح المفاوضات جزءاً من مشروع أوسع يسعى إلى تغيير البيئة اللبنانية، لا معالجة النزاعات قائمة.
من هنا تتضح المخاطر: ليس الخطر في الجلوس إلى الطاولة، بل في الذهاب إلى الطاولة من دون أوراق قوة، ومن دون استراتيجية واضحة، ومن دون سقف تفاوضي يُعرّف النتائج الممكنة وغير الممكنة. والمفارقة أن البعض يُبرّر ذلك بـ«الواقعية»، لكن أي واقعية تلك التي تعني الاستجابة لمطالب العدو التي فشل في تحقيقها عبر الحرب؟
في الخلاصة، التحدي القائم ليس بين من يرفض المفاوضات ومن يقبل بها، بل بين رؤيتين متباينتين لإدارة لحظة سياسية مفصلية:
رؤية تعتبر التفاوض أداةً من أدوات القوة وتتعامل معه بمنطق الدولة السيادية. ورؤية تتعامل معه كاستجابة لمعادلة خارجية تريد إعادة تعريف لبنان وتطويعه ضمن هندسة إقليمية جديدة.
وبناءً على ذلك، فإنّ السؤال النهائي ليس: هل نتفاوض أم لا؟ بل: كيف نتفاوض؟ وبأي استراتيجية؟ وبأي شروط؟ وكيف نضمن أن لا يتحول التفاوض إلى مسار يُحقِّق للعدو ما لم يستطع تحقيقه في الحرب؟ ودائماً وأبداً يبقى الموقف المبدئي من التفاوض المباشر مع العدو محفوظاً ومؤكداً.

